مصر الخير والخيرات
في عام 18 للهجرة حصل قحط كبير دام تسعة أشهر وهو أمر جلل داهم الجزيرة العربية وسمي بعام الرمادة لأن الريح تسفي تراباً كالرماد ، واشتد جوع أهل دار الخلافة في المدينة المنورة وما حولها حتى جعلت الوحوش تأوي إلى البشر ، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها .
سيدنا عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما عام الرمادة :
" بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاصي ، سلام عليك ، أما بعد أفتراني هالكاً ومن قِبَلي وتعيش أنت ومن قِبَلَك ؟
فيا غوثاه ، يا غوثاه ، يا غوثاه".
ورد سيدنا عمرو بن العاص الرسالة بقوله :
" بسم الله الرحمن الرحيمإلى عبدالله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عمرو بن العاص ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله ، الذي لا إله إلا هو .
أما بعد أتاك الغوث فلبيك لبيك ، لقد بعثت إليك بعيرٍ أولها عندك وآخرها عندي ، مع اني أرجو أن أجد سبيلا أن أحمل في البحر".
فبعث في البر بألف بعير تحمل الدقيق ، وبعث في البحر بعشرين سفينة تحمل الدقيق والدهن ، وبعث إليه بخمسة آلاف كساء .
وكتب إلى سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما والي الشام يقول :
" إذا جاءك كتابي هذا فابعث إلينا من الطعام بما يصلح قِبَلَنا ؛ فإنهم قد هلكو إلا أن يرحمهم الله .
فأرسل معاوية ثلاثة آلاف بعير من دمشق ، وقدم أبو عبيدة بن الجراح من حمص بأربعة آلاف راحلة محملة بالطعام .
ثم كتب سيدنا عمر إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يقدم عليه هو وجماعة من أهل مصر ، فقدموا عليه ، فقال عمر :" يا عمرو ، إن الله قد فتح على المسلمين مصر ، وهي كثيرة الخير والطعام ، وقد ألقى في رُوعي ؛ لما أحببت من الرفق بأهل الحرمين ، والتوسعة عليهم حين فتح الله عليهم مصر وجعلها قوة لهم ولجميع المسلمين ، أن أحفر خليجًا من نيلها حتى يسيل في البحر ، فهو أسهل لما نريد من حمل الطعام إلى المدينة ومكة ، فإن حمله على الظهر يبعد ، ولا نبلغ منه ما نريد ، فانطلق أنت وأصحابك فتشاوروا في ذلك حتى يعتدل فيه رأيكم."فانطلق عمرو فأخبر بذلك من كان معه من أهل مصر ، فثَقُلَ ذلك عليهم وقالوا: نتخوف أن يدخل في هذا ضرر على مصر ، فنرى أن تعظم ذلك على أمير المؤمنين ، وتقول له : إن هذا أمر لا يعتدل ولا يكون ، ولا نجد إليه سبيلاً .
فرجع عمرو بذلك إلى عمر ، فضحك عمر حين رآه ، وقال: " والذي نفسي بيده ، لكأني أنظر إليك يا عمرو وإلى أصحابك حين أخبرتهم بما أمرنا به من حفر الخليج فثقل ذلك عليهم ، وقالوا : يدخل في هذا ضرر على أهل مصر فنرى أن تعظم ذلك على أمير المؤمنين ، وتقول له : إن هذا الأمر لا يعتدل ولا يكون ولا نجد إليه سبيلاً".
فعجب عمرو من قول عمر، وقال : صدقت والله يا أمير المؤمنين لقد كان الأمر على ما ذكرت .
فقال له سيدنا عُمر : انطلق يا عمرو بعزيمة مني حتى تجِدَّ في ذلك ، ولا يأتي عليك الحول حتى تفرغ منه إن شاء الله .
فانصرف عمرو ، وجمع لذلك من الفَعَلَةِ ما بلغ منه ما أراد ، ثم احتفر الخليج الذي في حاشية الفسطاط الذي يقال له : خليج أمير المؤمنين ، فساقه من النيل إلى القلزم ( البحر الأحمر ) فلم يأتِ الحول حتى جرت فيه السفن ، فحمل فيه ما أراد من الطعام إلى المدينة ومكة فنفع الله بذلك أهل الحرمين ، وسمي خليج أمير المؤمنين .
ثم لم يزل يحمل فيه الطعام حتى حُمل فيه بعد عمر بن عبد العزيز ثم ضيعته الولاة بعد ذلك فترك وغلب عليه الرمل فانقطع .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق